الثلاثاء، 15 سبتمبر 2015

saifeddin gouasmia

طرطاق .. جنرال محاربة الفساد




الصورة الطاغية عند الحديث عن اللواء بشير طرطاق القائد الجديد لمديرية للاستعلامات والأمن، هي صورة مرتبطة بمكافحة الارهاب، وإذا كان عمله في هذا المجال منذ بداية التسعينات هو الأكثر بروزا وشهرة، فإن جانبا آخر من حياة "الماجور" الجديد للدي أر أس، مازال مجهولا، ويتعلق أساسا بمساهمته في مكافحة الفساد، علما أن تجربته في هذا المجال قديمة وتعود بدايتها الى نهاية السبعينيات من القرن الماضي.
وكانت الفرصة للبلاد أن تلتقي أحد الذين عرفوا طرطاق في تلك الفترة كان شاهدا على دور الملازم بشير في مكافحة الفساد ومحاربة المافيا
. ففي بدايات مساره المهني، عمل الملازم طرطاق في قيادة الناحية العسكرية الثالثة ببشار ، في فترة مفصلية شهدت تحولا سياسيا كبيرا هو وفاة الرئيس هواري بومدين وتولي الرئيس الشادلي بن جديد مقاليد الحكم في البلاد، وشاءت الأقدار أن يقف الضابط الشاب وراء تفجير أول وأكبر فضيحة فساد مالي سياسي في تاريخ الجزائر المستقلة عرضت على القضاء حتى ذلك الحين.
القصة بدأت عندما قررت مجموعة من عمال إحدى المؤسسسات العمومية في مجال البناء والتجهيز تقديم شكوى للسلطات المحلية ضد مسؤولي المؤسسة العمومية التي يعملون بها، ورغم أن شكوى العمال كانت تتعلق بقضايا صغيرة ومحدودة، إلا أنها "قبرت" في المهد بتواطئ مريب بين مسؤوليي مجلس التنسيق الولائي ( الذي كان يمثل السلطة العليا في الولاية في ذلك العهد ) ومسؤولي المؤسسة التي ينتمي لها العمال ومديرية التجهيز والهياكل القاعدية EID ( التسمية التي كانت تطلق على مديريات الأشغال العمومية في تلك الفترة، والتي كانت تشمل الاشغال العمومية والري والسكن) ، وبلغ التواطئ الى درجة أن المسؤول الولائي للنقابة - الاتحاد العام للعمال الجزائريين - والذي يشغل في الوقت الحاضر مناصب سياسية ومسؤلية سياسية رفيعة، تبرأ من العمال المشتكين وحظر عليهم التحرك باسم النقابة أو تحت غطائها، رغم أن "بساطة " الشكوى الأولى التي تقدم بها العمال، والتي لم تخرج عن نطاق ما لا حظوه من سوء تسيير التعاونية التابعة لمؤسستهم.
أمام "الجدار" الذي أقامته المافيا ،لم يجد العمال البسطاء ملجأ إلا أحد الإطارات الشباب المعروف في المنطقة بنضاله في مقاومة الفساد والانحراف السياسي والاداري، الذي شاءت الأقدار حينها أن يكون على صلة بالملازم بشير، وهكذا تشكلت بهدوء وسرعة مجموعة عمل سرية، مكونة من العمال المؤطرين من طرف بعض الاطارات الشباب، وكان الملازم بشير محرك المجموعة و"حاميها" في مواجهة احدى أولى شبكات المافيا "السياسية المالية" في الجزائر، وبعد عمل متواصل وتحقيقات متشعبة تمكنت المجموعة من اعداد ملف ضخم بالأدلة والوثائق التي أظهرت وجود عصابة حقيقة تشترك فيها جماعة كبيرة من المسؤلين المحليين من بينهم الوالي والمدير الولائي للتجهيز والهياكل اضافة الى عدد من الموظفين والمسؤولين وكذا مجموعة من المقاولين.
وترواحت الجرائم والتجاوزات المسجلة بين استغلال السلطة والنفوذ، تبديد وتحويل الأموال العمومية، الرشوة والاثراء غير المشروع، التزوير والغش... وكل التهم التي كانت وقتها غريبة على الأسماع ، وتجسدت في عدم احترام المواصفات في انجاز مستشفى 600 سرير في بشار (والذي مازالت أطلاله شاهدة على الغشّ اليى اليوم )، بناء "مستشفى وهمي" في تيندوف ، أنجاز طرق وهمية عديدة،الغش في الكميات والمواصفات ، استخدام موارد وتجهيزات المؤسسات العمومية من قبل شركات خاصة ...وقائمة طويلة من التهم والمخالفات، وبلغت قيمة الأموال التي أثبت التحقيق أنه تم التلاعب بها عدة ملايير من السنتيمات (بقيمة النقود عام 1980)
. تولّت مصالح الدرك الوطني حينها التحقيق الرسمي في القضية في ظل المتابعة النشطة للملازم طرطاق، فشبكة الفساد مدت أذرعها الاخطبوطية الى مستويات السلطة المركزية وحصلت على حماية بعض الأسماء "الكبيرة" في الدولة في ذاك العهد، لكن طرطاق تمكن من الحصول على دعم وتغطية قائد الناحية العسكرية يومها العقيد خالد نزار، الذي أبلغ رئيس الجمهورية الجديد وحصل على موافقته للمضي بالتحقيق الى مداه.
وتمت محاكمة المتورطين فيها أمام المحكمة العليا في العاصمة في سابقة هي الأولى ( وربما الأخيرة) في تاريخ القضاء الجزائري حيث عقدت جلسة المحاكمة بحضور الغرف المشتركة، بالنظر الى خطورة الوقائع وحجمها ،وصدرت الأحكام على واليين اثنين هما ( م. شريفي) والي بشار و (م. صماش) الوالي السابق، الذي كان حينها واليا على الأغواط، بالحبس النافذ بخمسة عشر سنة ، فيما حكم على أحد المقاولين بالسجن المؤبد وحكم على زميله بخمسة عشر سنة ( وهو الآن مستثمر سياحي معروف يملك سلسلة فندقية شهيرة في العاصمة ) ونال مقاول ثالث حكما بعشر سنوات، وحكم على مدير التجهيز والهياكل الاساسية ب 12 سنة أما مدير العتاد فنال 10 سنوات ، وتراواحت باقي الأحكام بين ثلاثة وخمسة وسبعة سنوات. وشهدت القضية في حينها تغطية اعلامية نادرة، حيث كانت الصحف العمومية تغطي وقائع المحاكمة التي استمرت قرابة شهر كامل، وتنقل تفاصيلها يوميا، في إطار سياسة اعلامية كانت تسعى الى صنع صورة "محارب الفساد" للرئيس الجديد. وفي حينها كانت "قضية مديرية الأشغال العمومية في بشار" كما عرفت لدى الراي العام تعتبر أول قضية مكافحة فساد بهذا الحجم في تاريخ الجزائر المستقلة بالنظر الى جسامة الأحداث وحجم الأموال بمقاييس ذلك الوقت وكذا مستوى المناصب التي كان يشغلها المسؤولون المتورطون فيها. أحدثت القضية في حينها صدى كبيرا لدى الرأي العام المحلي والوطني، وتابعها كثيرون على صفحات الجرائد، وحفظ الناس أسماء بعض المتهمين وحتى أسماء المحامين والقضاة، لكن الذين كانوا يعرفون "المحرك" الحقيقي لها كانوا يعدون على الأصابع، دور الملازم "بشير" ( الذي رقي بعدها الى رتبة نقيب) ظلّ مجهولا على عادة ضباط الاستخبارات الجزائرية الذين يفظلون العمل في الظلّ وفي صمت.

تعليقات فيسبوك
0 تعليقات بلوجر